| ||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||
تحقيق | ||||||||||||||||||||||||||||
|
أُوْلُو العَزْمِ وَوَحْدَةُ الرِّسالاتِ السَّمَاوِيَّة (صالح حامد)
الوسط اللبنانية | العدد التجريبي: 4345 | 24-06-2024 |
16:44
أُوْلُو العَزْمِ وَوَحْدَةُ الرِّسالاتِ السَّمَاوِيَّة
لا غَرْوَ أنْ نروي ظَمَأَ القارئَ حين نسطَر على جبين الألواح شخصياتٍ مؤثّرة من أُوْلِي العزم من الرسل ( موسى،عيسى، محمد) عليهم السلام، وإذا ما تمعنَّا في مسيرةِ كلٍّ منهم،ثَبتَ أنَّ جوهرَ رسالتِهم نهجٌ متجددٌ ومنفتحٌ بروحٍ مدَنية، له أبعادُه الاجتماعيةُ بأنفاسٍ إصلاحية، يَهدف إلى إحداث تَحوّلٍ جذريٍّ في بُنْيَة المجتمع المستهدَف، فالحركة التي انطلقوا من خلالها لها أنماطٌ تغييرية تسعى إلى استبدال منهج متَّبَع إلى منهجٍ آخر يناقضه أصولاً وفروعاً.
فخطوتُهم الإصلاحيةُ هذه، أتَتْ في إطار نسف ما كان سائداً من المفاهيم والعقائد والسلوك، وركَّزتْ نشاطَها باتجاه إلغاء الموروث الديني والاجتماعي السائد حينها، وهو ما ورثه الأبناءُ عن الآباء والأجداد، فكانت دعوتُهم مِعْوَلاً لهدم صنمية تلك المعبودات.
ومن الملاحظ أن أُوْلي العزم ( موسى، عيسى، محمد) لم يُولَدوا من العائلات الملكية كنبي الله داوود وسليمان، بل وُلِدوا من رحم الطبقات الشعبية، ممَّا جعلَ شخصيتَهم قريبةً من الناس على اختلاف فئاتهم الاجتماعية، من دون حاجب يحجب عنهم رعيتهم ومؤمنيهم، وهذا قدرُ الصالحين والمصلحين، فكانوا عوناً للمظلوم على الظالم، وسنداً لكل ملهوف.
فالنبي موسى عليه السلام قادَ مسيرةَ الرفضِ لتصرفات فرعون عصره المشينة، التي تتنافى مع القيم الإنسانية وأبسط حقوق الإنسان، فأَقَامَ الحُجَّةَ على سلطة فرعونِ الروحيةِ والزمنية، سالباً منه عرشِ الحكم والمرجعية، وبذلك أنقذ موسى بني إسرائيل، وبسط العدل في الأرض.
ومما أغنى دعوةَ الرسولِ موسى التبشيرية هي وصاياهُ العشر في الألواح، التي كانت بمثابة دستورٍ قومي ووطني لأمة بني إسرائيل، ومن أبرز تلك الوصايا { لا تقتل، لا تزنِ،لا تسرِق،لا تشهد شهادة الزور، لا تشتَهِ بيتَ قريبِكَ، لا تشتهِ امرأةَ قريبك، ولا عبدَهُ، ولا أمتَه، ولا شيئاً مما لقريبك} ( سفر التثنية، الإصحاح الخامس) .
ونفسها الوصايا العشرالواردة في ألواح موسى، فأتت مطابقة لأمثال أخناتون وحمورابي، فهذه الوصايا بمجملها صِيْغَتْ لتكونَ الخطوط العريضة في سياق تنظيم المعاملات بين الناس .
وللتذكير، فموسى الذي أنزل الله عليه التوراة ، يُعتَبر الوحيدُ الذي كلّمَ اللهَ بلا وحيٍ في جبل الطور بسيناء، وهنا لا نُنكِر أن شريعة موسى كانت موصوفة بأحكامها الشديدة على بني إسرائيل، ولعل مقتضى الحال في ذلك الوقت يفرض قوةَ تلك الأحكام كما في نصوص التوراة.
وكذلك فالرسول عيسى ابن مريم عليه السلام المؤيَّد بالمعجزات وروح القُدُس دعا للعمل بمقتضى تلك الوصية المُوسُوية وأكّدَ عليها، ومارسَ أثناءَ دعوتهِ التبشيرية حقَّه في بناء المجتمع على أسس عمرانية ونهضوية، فأظهرَ سخطَهُ على سلطة الرومانية في حينها، مستنكراً انتهاكاتها السلطوية بحق شعبه، فرفعَ ومَن معه شعارَ العدلِ والمحبة والسلام.
وأشير إلى أنَّ شريعة عيسى عُرِفَتْ بالأحكام التخفيفية والسهلة والمرنة، كما أخبرنا القرآن الكريم بذلك { ولأحلَّ لكم بعضَ الذي حُرِّمَ عليكم..}( سورة آل عمران، الآية 50)، فأمرَ الرسول عيسى بنشر ثقافة السلام ، مشدداً على ضرورة المعاملة بالإحسان والابتعاد عن العنف، قائلاً : طوبى لصانعي السلام.( إنجيل متى، الإصحاح الخامس)
ومن وصايا الرسول عيسى المطابقة لوصايا موسى وهي ( لا تقتُلْ، لا تزْنِ، لا تسرِقْ، لا تشهَدِ الزُّوْرَ، أكرِمْ أباكَ، وأمَّكَ،وأحِبَّ قريبَكَ كنفسِكَ)،(إنجيل متى، الإصحاح التاسعَ عشر).
وللعلم، فالرسول عيسى صَدّقَ وأكّدَ على شريعة التوراة، مبشراَ بأخيه في النبوة،عنيتُ به الرسول محمد، كما ورد ذلك في آيات القرآن الكريم، فالمسلم لا يكتمل إيمانُهُ حتى يؤمن بجميع الأنبياء، من غير تمييز ولا تفريق، حيث أمر الله بالمساواة بينهم،وهذا ما أكده الرسول محمد على أخوة الأنبياء. والحكمة في الأمر أن القافلة الرسولية مشروعها واحدٌ وموحّد.
أما الرسول محمد عليه السلام فقدْ افتتَحَ شريعته بقرار السماء الذي يستنهض الأمم على ضرورة قراءةِ الكونِ والكوكبِ الأرضي ومما خُلِقَ الإنسانُ، والتأمل في زينة السماء ومصابيحها والأرض وطبيعتها الخلابة، ويكأنها دعوة إلى أهمية التأمل والتفكّر للاستكشاف والعالمية، مبيّناً أنّ الهدف من رسالته إفشاءُ السلام والتكافل الاجتماعي والتكامل الاقتصادي بين الناس على مستوى الفرد والجماعة، وعلى توحيد المعبود ووحدة العابدين، ومما جاء في وصايا النبوية : استوصوا بالنساء خيرا، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانَهُن إلا لئيم، بل أوصى بمعاملة الأرقاء بلطف وكرامة ( أطعموهم مما تأكلون، واكْسُوهم مما تلبسون، ولا تعذّبوهم.. )
ومن الوصايا المُهمة والمُلْهِمة التي أمر اللهُ تعالى رسولَه محمداً أن يَذيعَها على الناس أجمعين، هي قولُ الله في القرآن الكريم { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153} (سورة الأنعام ) .
ولو عَمِلَ الناسُ من أتباع الشريعة الموسوية والعيسوية والمحمدية بمحتوى تلك الوصايا النبوية والربانية لأفلحوا في الدنيا والآخرة، ولَأَقاموا مجتمعَ السِّلمِ الأهلي والعدل الاجتماعي،ولاتَّسَعَتْ لنا الأرضُ جميعاً، حيث حياتُنا أولى أن نعيشها بالحب لا بالكراهية وبالسلام لا بالحرب. فالمتأمل في شرائع أولى العزم الثلاث سيتبين له جلياً أنّها ناضلتْ في مكافحة الفساد والظلم، وحرّمتِ الخمرَ والربا والثأر بالقتل والميسر والعدوان وأكل الميتة، حفاظاً على وظيفة العقل وصفاء الفكر وحماية المجتمعات من الاستغلال والاستبداد، ولمعالجة فوضى الحلال والحرام والتداخل بينهما .
ولْيَعلَمِ القارئُ أنَّ الشرائع تحتوي على فقه المعاملات والعبادات الشعائرية معاً،إنها سلسلة تكتمل ببعضها، فالمسيحية جاءت امتداداً للشريعة اليهودية، ومن هنا يقول السيد المسيح ( لا تظنوا أني جئتُ لأنقضَ الناموسَ أو الأنبياء، ما جئتُ لأنقُضُ، بل جئت لأكمِل )
وإنّ المبادئ الإسلامية فيما يخص المعاملات - ( الصدق، الأمانة، الوفاء، احترام الوقت والوعد،العفاف، الفضيلة)- هي نفسها الواردة في أدبيات الشرائع والأديان، فجميعها يدور في فَلَكِ تأمين الحقوق ودرئ المفاسد ورفع الظلم والحض على الفضيلة، والأمر فيه دلالة على أنّ شرائعَ موسى وعيسى ومحمد متطابقة من حيث النهجُ والهدفُ والغرضُ والمشروعُ العالمي، يعني ذلك أنه لا يوجد تباين أو تناقض بين رسالات الرسل، لا في السلوك ولا في المفهوم.
فالقضية المحورية في كل دينٍ وشريعةٍ هو تحقيق العدل كما صرّح الله تعالى في القرآن الكريم { إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون }( سورة النحل، الآية 90).
وأوضِّح هنا قضيةً جوهريةً مفادُها أنّ أيَّ ديانةٍ وشريعةٍ لا تحترم حقوق الإنسان فاضْرِبُوا بها عرضَ الحائط، وإذا تعارضَ الدينُ مع الحياة العامة حينها نقدّم مصلحة الناس على الدين، الذي عليه مراجعة نصوصه ومفاهيمه ومراميه .
لكنْ للتوضيح، فمحمد بُعِثَ لقومٍ آمنوا بعقائد آبائهم وأجدادهم، وارتبطَ ذلك بالجاه السياسي والمجد الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، فبيَّن لهم الرسول محمد أنّ رسالتَه لا تقتصر على استبدال عقيدة بعقيدة أخرى مختلفة، بل هو من ضمن مسيرة إصلاحية منقِذٌة للبشرية تحتوي على منظومة من القيم الأخلاقية التي تبعد الإنسانَ عن الرذيلة وتهديه إلى صراطٍ مستقيم .
وهنا للمقارنة، فإنَّ الرسُولَينِ المهاجرَين موسى ومحمد قد جمَعَا بين الدعوة الدينية وبناء الأرض والإنسان، وهَجرَ كلُّ واحدٍ منهما بيئته الوثنية، خرجَ موسى بقومه من مصر إلى الأرض المقدسة، فيما هاجرَ محمدٌ مسقط رأسه أرض أبيه إسماعيل(مكة) نحو المدينة الجديدة، هروباً من الاستبداد والظلم والتعذيب الذي مُورِسَ ضدَّهُ أثناءَ دعوتِه في مكة، فأقامَ مواثيقَ للتعايش مع يهود المدينة وحواراً مع نصارى نجران، إلا الرسول عيسى لم يُهاجِر ولم يهرب باحثاً عن وطن بديل، بل تصدَّى للسلطة الرومانية في الأراضي المقدسة وظلمها.
وأشير إلى أنَّ مجتمع الرسول عيسى لم يكنْ وثنياً، بل يهوداً موحدين، خلافاً لقوم موسى ومحمد، فهما وَجَدَا أنفسَهما وسط َ حاضنةٍ وثنية، ما حتّمَ عليهما أعباءَ المسؤولية وتحدّياتها.
فالتغيير المنوط بدَعْوَتَيْ موسى ومحمد قائمة على التغيير الجذري والشامل في العقائد، فمشروعهم الإصلاحي أثْمرَ نقلةً نوعيةً تحريريةً من الوثنية إلى التوحيد، للقول بأن الذات الوحيدة التي تستحق العبادة هي الذات الإلهِيَّة لا شريكَ له.
وللحقيقة أقول، فإنَّ وحدانية الله تحتم وحدةَ الأديانِ في جوهرها مع اختلافٍ في مناهج الشرائع، فيما تختلف أساليب المعالجة من رسول لآخر،ومن عهد إلى عهد، فالمسلمون يعتقدون بأنَّ الرسالة المحمدية هي خاتمة الشرائع، فلا نُزول للوحْيَ من بعدِ وفاة محمد .
وبالتتبُّعِ فإنّ شرائع أولي العزم تتسامح وتتفاعل في النصوص ومعانيها وشروحها وتطبيقاتها، لكنّ الآفة الكبرى أنَّ بعضاً من أتباعها لم يُدرِكوا مقاصدَها الشريفة، فيتعصَّبون، ويبحثون عن مسببات الصراع، فيُوقدون نيرانَها بخطب الفتنة وفتيل النزاعات،تاركين عناصر الوفاق، متناسين أن جوامع الدين والدنيا أكثرَ مما تُحصَر وتُحْصَى. وغاب عن ذاكرتهم بأنّ الأديانَ نزلت من السماء لتكونَ دواءً لأمراض الجهل والفساد والفقر.
فالشرائع ينسخ بعضُها بعضا، والرسل مُرسلون من رب واحد، يفعلون ما يُؤمرون،لا يعصون الله في أوامره ونواهيه،وقالوا سمعنا وأطعنا، ويقيناً فالرسالات السماوية الثلاث متحدة ٌ في الأهداف والأصول والأغراض والغايات، وهي في مجموعها تتفق على نقاط ٍ ثابتة.
فأولو العزم الثلاثة شددوا على بناء الأسرة والقيم الاجتماعية. وثلاثتهم شجعوا على الحوار العملي والميداني والنظري، وعلى نشر مبادئ السلام والإيمان والفضيلة وحرمة القتل .
فالذي يقرأ سيرة أولي العزم الثلاثة يلمس أنّ كل واحدٍ منهم لديه مشروع تغييري وإصلاحي، متمتعين بالحكمة والموعظة الحسنة، همهم الوحيد هو الانتقال بالمجتمع من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم والهداية والتراحم، تجلى ذلك في قول الرسول محمد : إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق. ( حديث نبوي شريف)
فالله تعالى أنزل سورة الأنبياء في القرآن الكريم، للدلالة على عظيم دور الأنبياء والرسل وعلى مهمتهم الروحية والإصلاحية على مدى العهود.
وأختم مقالي هذا، بأنَّ الأديان والشرائع السماوية وبكل أسف تشطرت إلى مذاهب وفرق متناقضة ومتنافسة ومتناحرة ومتقاتلة، يكفر بعضها بعضا، لكنْ لكل زمانٍ دينُه وشريعتُه الخاصة، والدين هو الابن الشرعي لخير الزمان والمكان . اللهم عجّل لنا السلام في العالم.
الكاتب والباحث صالح حامد - لبنان
المصدر: الوسط اللبنانية ووكالات
|